فصل: تفسير الآيات رقم (1- 4)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 54‏]‏

‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ‏(‏43‏)‏ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ‏(‏44‏)‏ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ‏(‏45‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏46‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ‏(‏49‏)‏ فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏50‏)‏ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ‏(‏51‏)‏ فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏53‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فأقم وجهك للدين القيم‏}‏ يعني لدين الإسلام ‏{‏من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله‏}‏ يعني يوم القيامة لا يقدر أحد على رده من الخلق ‏{‏يومئذ يصدعون‏}‏ يعني يتفرقون ثم ذكر الفريقين فقال تعالى ‏{‏من كفر فعليه كفره‏}‏ يعني وبال كفره ‏{‏ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون‏}‏ أي يوطئون المضاجع ويسوونها في القبور ‏{‏ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ليثيبهم الله ثواباً أكثر من أعمالهم ‏{‏إنه لا يحب الكافرين‏}‏ فيه تهديد ووعيد لهم‏.‏ قوله تعالى ‏{‏ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات‏}‏ أي تبشر بالمطر ‏{‏وليذيقكم من رحمته‏}‏ أي بالمطر وهو الخصب ‏{‏ولتجري الفلك‏}‏ أي بهذه الرياح ‏{‏بأمره ولتبتغوا من فضله‏}‏ معناه لتطلبوا رزقه بالتجارة في البحر ‏{‏ولعلكم تشكرون‏}‏ أي هذه النعم‏.‏ قوله تعالى ‏{‏ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاؤهم بالبينات‏}‏ أي بالدلالات الواضحات على صدقهم ‏{‏فانتقمنا من الذين أجرموا‏}‏ يعني أنا عذبنا الذين كذبوهم ‏{‏وكان حقاً علينا نصر المؤمنين‏}‏ أي مع أنجائهم من العذاب ففيه تبشير للنبي صلى الله عليه وسلم بالظفر في العاقبة والنصر على الأعداء عن أبي الدرداء قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه سلم يقول‏:‏ «ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا من كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم لقيامة؛ ثم تلا هذه الآية‏:‏ وكان حقاً علينا نصر المؤمنين» أخرجه الترمذي ولفظه‏:‏ «من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة» وقال حديث حسن‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏والله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً‏}‏ يعني تنشره ‏{‏فيبسطه في السماء كيف يشاء‏}‏ يعني مسيرة يوم أو يومين أو أكثر على ما يشاء ‏{‏ويجعله كسفاً‏}‏ أي قطعاً متفرقة ‏{‏فترى الودق‏}‏ أي المطر ‏{‏يخرج من خلاله‏}‏ أي من وسطه ‏{‏فإذا أصاب به‏}‏ يعني الودق ‏{‏من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون‏}‏ يعني يفرحون بالمطر ‏{‏وإن كانوا‏}‏ أي وقد كانوا ‏{‏من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين‏}‏ يعني آيسين ‏{‏فانظر إلى آثار رحمة الله‏}‏ يعني المطر والمعنى انظر حسن تأثيره في الأرض وهو قوله تعالى ‏{‏كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى‏}‏ يعني إن الذين أحيا الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى ‏{‏وهو على كل شيء قدير ولئن أرسلنا ريحاً فرآه مصفراً‏}‏ أي الزرع بعد الخضرة ‏{‏لظلموا من بعده‏}‏ أي من بعد اصفرار الزرع ‏{‏يكفرون‏}‏ أي يجحدون ما سلف من النعمة والمعنى أنهم يفرحون عند الخصب ولو أرسلت عذاباً على زرعهم لجحدوا سالف نعمتي ‏{‏فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولو مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون‏}‏ تقدم تفسيره‏.‏

قوله تعالى ‏{‏الله الذي خلقكم من ضعف‏}‏ أي بدأكم وأنشأكم على ضعف وقيل من ماء ذي ضعف وقيل هو إشارة إلى أحوال الإنسان كان جنيناً ثم طفلاً مولوداً ومفطوماً فهذه أحوال الضعف ‏{‏ثم جعل من بعد ضعف قوة‏}‏ يعني من بعض ضعف الصغر شباباً وهو وقت القوة ‏{‏ثم جعل من بعد قوة ضعفاً‏}‏ يعني هرماً ‏{‏وشيبة‏}‏ وهو تمام النقصان ‏{‏يخلق ما يشاء‏}‏ أي من الضعف والقوة والشباب والشيبة وليس ذلك من أفعال الطبيعة بل بمشيئة الله وقدرته ‏{‏وهو العليم‏}‏ بتدبير خلقه ‏{‏القدير‏}‏ على ما يشاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 60‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ‏(‏55‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏56‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏57‏)‏ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ‏(‏58‏)‏ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏59‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون‏}‏ أي يحلف المشركون ‏{‏ما لبثوا‏}‏ أي في الدنيا ‏{‏غير الساعة‏}‏ معناه أنهم استقلوا أجل الدنيا لما عاينوا الآخرة وقيل معناه ما لبثوا في قبورهم غير ساعة ‏{‏كذلك كانوا يؤفكون‏}‏ يعني يصرفون عن الحق في الدنيا وذلك أنهم كذبوا في قولهم ما لبثوا غير ساعة كما كذبوا في الدنيا أن لا يبعثوا‏.‏ والمعنى أن الله أراد أن يفضحهم فحلفوا على شيء تبين لأهل الجمع أنهم كاذبون فيه وكان ذلك بقضاء الله وقدره ثم ذكر إنكار المؤمن عليهم كذبتهم فقال تعالى ‏{‏وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله يوم البعث‏}‏ أي فيما كتب الله لكم في سابق عمله من اللبث في القبور وقيل معنى الآية وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان يعني الذين يقيمون كتاب الله قالوا للمنكرين قد لبثتم إلى يوم البعث أي في قبوركم ‏{‏فهذا يوم البعث‏}‏ أي الذي كنتم تنكرونه في الدنيا ‏{‏ولكنكم كنتم لا تعلمون‏}‏ أي وقوعه في الدنيا فلا ينفعكم العلم به الآن بدليل قوله تعالى ‏{‏فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون‏}‏ أي لا تطلب منهم العتبى والرجوع في الآخرة وقيل لا تطلب منهم التوبة التي تزيل الجريمة لأنها لا تقبل منهم‏.‏ قوله تعالى ‏{‏ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل‏}‏ فيه إشارة إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار ‏{‏ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون‏}‏ يعني ما أنتم إلا على باطل وذلك على سبيل العناد‏.‏ فإن قلت ما معنى توحيد الخطاب في قوله‏:‏ ولئن جئتهم والجمع في قوله‏:‏ إن أنتم إلا مبطلون‏.‏ قلت فيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال ولئن جئتهم بكل آية جاءت بها الرسل ويمكن أن يقال معناه أنكم كلكم أيها الرسل مبطلون ‏{‏كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون‏}‏ أي توحيد الله ‏{‏فاصبر إن وعد الله حق‏}‏ أي في نصرك وإظهارك على عدوك ‏{‏ولا يستخفنك‏}‏ يعني لا يحملنك على الجهل وقيل لا يستخفن رأيك ‏{‏الذين لا يوقنون‏}‏ يعني بالبعث والحساب، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده‏.‏

سورة لقمان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏3‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين‏}‏ يعني الذين يعملون الحسنات، ثم ذكرهم فقال ‏{‏الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون‏}‏‏.‏ قوله تعالى ‏{‏ومن الناس من يشتري لهو الحديث‏}‏ الآية قيل‏:‏ نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة وكان يتجر فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم ويحدث بها قريشاً ويقول إن محمداً يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة فيستمعون حديثه ويتركون استماع القرآن‏.‏ فأنزل الله هذه الآية وقيل هو شراء القينات والمغنين، ومعنى الآية ومن الناس من يشتري ذات لهو أو ذا لهو الحديث؛ وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهن وأثمانهن حرام» وفي مثل ذلك نزلت هذه الآية ‏{‏ومن الناس من يشتري لهو ليضل عن سبيل الله‏}‏ وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله له شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت أخرجه الترمذي وهذا لفظه عن أبي أسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام» وفي مثل هذا نزلت ‏{‏ومن الناس من يشتري لهو الحديث‏}‏ الآية وعن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب وكسب المزمار» وقال مكحول من اشترى جارية ضرابة ليمسكها لغنائها وضربها مقيماً عليه حتى يموت لم أصل عليه إن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يشتري لهو الحديث‏}‏ الآية وعن أبي مسعود وابن عباس والحسن وعكرمة وسعيد بن جبير قالوا لهو الحديث هو الغناء والآية نزلت فيه ومعنى تشتري يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن‏.‏ وقال أبو الصهباء‏:‏ سألت ابن مسعود عن هذه الآية فقال هو الغناء والله الذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث مرات وقال إبراهيم النخعي الغناء ينبت النفاق وقيل‏:‏ هو كل لهو ولعب وقيل‏:‏ هو الشرك ‏{‏ليضل عن سبيل الله‏}‏ يعني عن دين الإسلام وسماع القرآن ‏{‏بغير علم‏}‏ يعني يفعله عن جهل وحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق ‏{‏ويتخذها هزواً‏}‏ أي يتخذ آيات الله مزحاً ‏{‏أولئك‏}‏ يعني الذين هذه صفتهم ‏{‏لهم عذاب مهين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 15‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ‏(‏8‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏9‏)‏ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ‏(‏10‏)‏ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏11‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏12‏)‏ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ‏(‏13‏)‏ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏14‏)‏ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً‏}‏ أي لا يعبأ بها ولا يرفع رأساً ‏{‏كأن لم يسمعها‏}‏ أي يشبه حاله في ذلك حال من لم يسمعها وهو سامع ‏{‏كأن في أذنيه وقراً‏}‏ أي ثقلاً ولا وقر فيهما ‏{‏فبشره بعذاب أليم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقاً‏}‏ يعني وعدهم الله ذلك وعداً حقاً وهو لا يخلف المعياد ‏{‏وهو العزيز الحكيم‏}‏ قوله تعالى ‏{‏خلق السموات بغير عمد‏}‏ قيل إن السماء خلقت مبسوطة كصفحة مستوية وهو قول المفسرين وهي في الفضاء والفضاء لا نهاية له وكون السماء في بعضه دون بعض ليس ذلك إلا بقدره قادر مختار وإليه الإشارة بقوله بغير عمد ‏{‏ترونها‏}‏ أي ليس لها شيء يمنعها الزوال من موضعها وهي ثابتة لا تزول وليس ذلك إلا بقدرة الله تعالى‏.‏ وفي قوله ترونها وجهان‏:‏ أحدهما أنه راجع إلى السموات أي ليست هي بعمد وأنتم ترونها كذلك بغير عمد‏.‏ الوجه الثاني أنه راجع إلى العمد ومعناه بغير عمد مرئية ‏{‏وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم‏}‏ أي لئلا تتحرك بكم ‏{‏وبث فيها‏}‏ أي في الأرض ‏{‏من كل دابة‏}‏ أي يسكنون فيها ‏{‏وأنزلنا من السماء ماء‏}‏ يعني المطر وهو من إنعام الله على عباده وفضله ‏{‏فأنبتنا فيها من كل زوج كريم‏}‏ أي من كل صنف حسن ‏{‏هذا‏}‏ يعني الذي ذكرت مما تعاينون ‏{‏خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه‏}‏ أي آلهتكم التي تعبدونها ‏{‏بل الظالمون في ضلال مبين‏}‏ قوله عز وجل ‏{‏ولقد آتينا لقمان الحكمة‏}‏ قيل هو لقمان بن باعوراء بن ناحور بن تارخ وهو آزر‏.‏ وقيل كان ابن أخت أيوب‏.‏ وقيل كان ابن خالته‏.‏ وقيل إنه عاش ألف سنة حتى أدرك داود وقيل إنه كان قاضياً في بني إسرائيل‏.‏ واتفقت العلماء على أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً إلا عكرمة فإنه قال‏:‏ كان نبياً وقيل خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة‏.‏ وروي أنه كان نائماً نصف الليل فنودي يا لقمان هل لك أن نجعلك خليفة في الأرض فتحكم بين الناس فأجاب الصوت فقال إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء وإن عزم علي فسمعاً وطاعة وإني أعلم أن الله إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني فقالت الملائكة بصوت لا يراهم لم يا لقمان‏؟‏ قال إن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاها الظلم من كل مكان إن عدل فبالحرى أن ينجو وإن أخطأ الطريق أخطأ طريق الجنة ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً، ومن يختر الدنيا على الآخرة تفتنه الدنيا ولم يصب الآخرة فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه وهو يتكلم بها ثم نودي داود بعده، فقبلها ولم يشترط ما اشترط لقمان فهوى في الخطيئة غير مرة كل ذلك يعفو الله عنه وكان لقمان يوازر داود لحكمته وقيل كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً وقيل كان خياطاً وقيل كان راعي غنم فروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال ألست فلاناً الراعي قال‏:‏ بلى قال فبم بلغت ما بلغت‏؟‏ قال بصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني، وقيل كان عبداً أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين وقيل‏:‏ خير السودان بلال بن رباح ومهجع مولى عمر ولقمان والنجاشي رابعهم أوتي الحكمة والعقل والفهم وقيل العلم والعمل به ولا يسمى الرجل حكيماً حتى يجمعها وقيل الحكمة المعرفة والإصابة في الأمور وقيل‏:‏ الحكمة شيء يجعله الله في القلب ينوره كما ينور البصر فيدرك المبصر‏.‏

وقوله ‏{‏أن أشكر الله‏}‏ وذلك لأن المراد من العلم العمل به والشكر عليه ‏{‏ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه‏}‏ أي عليه يعود نفع ذلك وكذلك كفرانه ‏{‏ومن كفر‏}‏ عليه يعود وبال كفره ‏{‏فإن الله غني‏}‏ أي غير محتاج إلى شكر الشاكرين ‏{‏حميد‏}‏ أي هو حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏وإذ قال لقمان لابنه‏}‏ قيل اسمه أنعم وقيل أشكم ‏{‏وهو يعظه‏}‏ وذلك لأن أعلى مراتب الإنسان أن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره فقوله ‏{‏ولقد آتينا لقمان الحكمة أن أشكر لله‏}‏ إشارة إلى الكمال وقوله وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه إشارة إلى التكميل لغيره وبدأ بالأقرب إليه وهو ابنه وبدأ في وعظه بالأهم وهو المنع من الشرك وهو قوله ‏{‏يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ لأن التسوية بين من يستحق العبادة وبين من لا يستحقها ظلم عظيم لأنه وضع العبادة في موضعها‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن‏}‏ قال ابن عباس شدة بعد شدة وقيل إن المرأة إذا حملت توالى عليها الضعف والتعب والمشقة وذلك لأن الحمل ضعف والطلق ضعف والوضع ضعف والرضاعة ضعف ‏{‏وفصاله في عامين‏}‏ أي فطامه في سنتين ‏{‏أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير‏}‏ لما جعل الله بفضله للوالدين صورة التربية الظاهرة وهو الموجد والمربي في الحقيقة جعل الشكر بينهما فقال اشكر لي ولوالديك ثم فرق فقال إلي المصير يعني أن نعمتهما مختصة بالدنيا ونعمتي عليك في الدنيا والآخرة وقيل لما أمر بشكره وشكر الوالدين قال الجزاء على وقت المصير إلي، قال سفيان بن عيينة في هذه الآية من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر الوالدين ‏{‏وإن جاهداك على أن تشرك بين ما ليس لك به علم فلا تطعهما‏}‏ قال النخعي‏:‏ يعني أن طاعتهما واجبة فان أفضى ذلك إلى الإشراك بي فلا تطعهما في ذلك لأن لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق ‏{‏وصاحبهما في الدنيا معروفاً‏}‏ أي بالمعروف وهو البر والصلة والعشرة الجميلة ‏{‏واتبع سبيل من أناب إلي‏}‏ أي اتبع دين من أقبل إلى طاعتي وهو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقيل من أناب إلي يعني أبا بكر الصديق قال ابن عباس‏:‏ وذلك أنه حين أسلم أتاه عثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وقالوا له قد صدقت هذا الرجل وآمنت به قالت نعم إنه صادق فآمنوا به ثم حملهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أسلموا فهؤلاء لهم سابقة الإسلام أسلما بإرشاد أبي بكر ‏{‏ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 20‏]‏

‏{‏يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏16‏)‏ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ‏(‏18‏)‏ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ‏(‏19‏)‏ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل‏}‏ وذلك أن ابن لقمان قال لأبيه يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله‏؟‏ قال يا بني إنها أي الخطيئة إن تك مثقال حبة من خردل أي في الصغر ‏{‏فتكن‏}‏ أي من صغرها ‏{‏في صخرة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ صخرة تحت الأرضين السبع وهي التي يكتب فيها أعمال الفجار وخضرة السماء منها وقيل خلق الله الأرض على حوت وهو النون والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة والصفاة على ظهر ملك وقيل على ظهر ثور وهو على صخرة وهي التي ذكر لقمان ليست في الأرض ولا في السماء فلذلك قال ‏{‏أو في السموات أو في الأرض‏}‏ والصخرة على متن الريح والريح على القدرة ‏{‏يأت بها الله‏}‏ معناه الله عالم بها قادر على استخراجها وهو قوله ‏{‏إن الله لطيف‏}‏ أي باستخراجها ‏{‏خبير‏}‏ أي بمكانها ومعنى الآية الإحاطة بالأشياء صغيرها وكبيرها قيل إن هذه الكلمة آخر كلمة قالها لقمان فانشقت مرارته من هيبتها وعظمتها فمات ‏{‏يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك‏}‏ من الأذى ‏{‏إن ذلك من عزم الأمور‏}‏ يعني إقامة الصلاة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى من الأمور الواجبة التي أمر الله بها ‏{‏ولا تصعر‏}‏ وقرئ تصاعر ‏{‏خدك للناس‏}‏ قال ابن عباس لا تتكبر فتحقر الناس وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك وقيل هو الرجل يكون بينك وبينه محبة فيلقاك فتعرض عنه وقيل هو الذي إذا سلم عليه ولوى عنقه تكبراً وقيل معناه لا تحتقر الفقراء فليكن الفقير والغني عندك سواء ‏{‏ولا تمش في الأرض مرحاً‏}‏ أي خيلاء ‏{‏إن الله لا يحب كل مختال‏}‏ في مشيه ‏{‏فخور‏}‏ أي على الناس ‏{‏واقصد في مشيك‏}‏ أي ليكن في مشيتك قصد بين الإسراع والتأني أما بالإسراع فهو من الخيلاء وأما التأني فهو أن يرى في نفسه الضعف تزهداً وكلا الطرفين مذموم بل ليكن مشيك بين السكينة والوقار ‏{‏واغضض‏}‏ أي اخفض وقيل وانقص ‏{‏من صوتك إن أنكر‏}‏ أي أقبح ‏{‏الأصوات لصوت الحمير‏}‏ لأن أوله زفير وآخره شهيق وهما صوت أهل النار وعن الثوري في هذه الآية قال صياح كل شيء تسبيح إلا الحمار وقيل معنى الآية هو العطسة القبيحة المنكرة قال وهب‏:‏ تكلم لقمان باثني عشر ألف باب من الحكمة أدخلها الناس في كلامهم وقضاياهم ومن حكمته قيل‏:‏ إنه كان عبداً حبشياً فدفع إليه مولاه شاة وقال له‏:‏ اذبحها وائتني بأطيب مضغتين منها فاتاه باللسان والقلب ثم دفع إليه أخرى وقال له اذبحها وائتني بأخبث مضغتين منها فأتاه باللسان والقلب فسأله مولاه فقال ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا وقال لقمان ليس مال كصحة ولا نعيم كطيب نفس‏.‏

وقيل للقمان أي الناس شر قال الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏ألم ترو أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ‏}‏ أي أتم وأكمل ‏{‏عليكم نعمه ظاهرة وباطنة‏}‏ قال ابن عباس النعمة الظاهرة الإسلام والقرآن والباطنة ما ستر عليكم من الذنوب ولم يعجل عليكم بالنقمة؛ وقيل الظاهرة تسوية الأعضاء وحسن الصورة والباطنة الاعتقاد بالقلب وقيل الظاهرة الرزق والباطنة حسن الخلق وقيل الظاهرة تخفيف الشرائع والباطنة الشفاعة وقيل الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء والباطنة الامداد بالملائكة وقيل الظاهرة اتباع الرسول والباطنة محبته ‏{‏ومن الناس من يجادل في الله بغير علم‏}‏ نزلت في النضر بن الحارث وأبي بن خلف وأمية بن خلف وأشباههم كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه سلم في الله وفي صفاته بغير علم ‏{‏ولا هدى ولا كتاب منير‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 32‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏21‏)‏ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏(‏22‏)‏ وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏23‏)‏ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏24‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏25‏)‏ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏26‏)‏ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏27‏)‏ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏28‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏29‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏30‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه أباءنا‏}‏ قال الله تعالى ‏{‏أولو كان الشيطان يدعوهم‏}‏ معناه أفيتبعونهم وإن كان الشيطان يدعوهم ‏{‏إلى عذاب السعير‏}‏ قوله عز وجل ‏{‏ومن يسلم وجهه إلى الله‏}‏ أي يخلص لله دينه ويفوض إليه أمره ‏{‏وهو محسن‏}‏ أي في عمله ‏{‏فقد استمسك بالعروة الوثقى‏}‏ أي اعتصم بالعهد الأوثق الذي لا يخلف عهده ولا يخاف انقطاعه ويرتقي بسببه إلى أعلى المراتب والغايات ‏{‏وإلى الله عاقبة الأمور‏}‏ أي مصير جميع الأشياء إليه ‏{‏ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور‏}‏ أي لا يخفى عليه سرهم وعلانيتهم‏.‏ قوله تعالى ‏{‏نمتعهم قليلاً‏}‏ أي نمهلهم ليتمتعوا بنعيم الدنيا إلى انقضاء آجالهم ‏{‏ثم نضطرهم‏}‏ أي نلجئهم ونردهم ‏{‏إلى عذاب غليظ‏}‏ إلى النار في الآخرة ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل الحمد الله بل أكثرهم لا يعلمون لله ما في السموات والأرض إن الله هو الغني الحميد‏}‏ تقدم تفسيره‏.‏ قوله تعالى ‏{‏ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام‏}‏ قال المفسرون لما نزلت بمكة ‏{‏ويسألونك عن الروح‏}‏ الآية وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود وقالوا «يا محمد بلغنا أنك تقول ‏{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلا‏}‏ أتعنينا أم قومك فقال عليه الصلاة والسلام كلا قد عنيت قالوا ألست تتلو فيما جاءك أنا أوتينا التوراة فيها علم كل شيء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي في علم الله قليل وقد أتاكم الله بما إن علمتم به انتفعتم به قالوا كيف تزعم هذا وأنت تقول ‏{‏ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً‏}‏ فكيف يجتمع علم قليل مع خير كثير» فأنزل الله هذه الآية فعلى هذا تكون هذه الآية مدنية وقيل إن اليهود أمروا وفد قريش أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولوا له ذلك وهو بمكة وقيل إن المشركين قالوا إن القرآن وما يأتي به محمد يوشك أن ينفد فينقطع فأنزل الله تعالى ‏{‏ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام‏}‏ أي بريت أقلاماً وقيل بعدد كل شجرة قلم ‏{‏والبحر يمده‏}‏ أي يزيده وينصب إليه ‏{‏من بعده سبعة أبحر‏}‏ أي مداداً والخلائق يكتبون به كلام الله ‏{‏ما نفدت كلمات الله‏}‏ لأنها لا نهاية لها ‏{‏إن الله عزيز حكيم‏}‏‏.‏

قوله تعالى ‏{‏ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة‏}‏ أي إلا كخلق نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء ‏{‏إن الله سميع‏}‏ أي لأقوالكم ‏{‏بصير‏}‏ بأعمالكم ‏{‏ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير ذلك بأن الله هو الحق‏}‏ يعني ذلك الذي هو قادر على هذه الأشياء التي ذكرت هو الحق المستحق للعبادة ‏{‏وأن ما يدعون من دونه الباطل‏}‏ يعني لا يستحق العبادة ‏{‏وأن الله هو العلي‏}‏ يعني في صفاته له الصفات العليا والأسماء الحسنى ‏{‏الكبير‏}‏ في ذاته أنه أكبر من كل كبير‏.‏

قوله تعالى ‏{‏ألم تر أن الفلك‏}‏ يعني السفن والمراكب ‏{‏تجري في البحر بنعمة الله‏}‏ يعني ذلك من نعمة الله عليكم ‏{‏فيريكم من آياته‏}‏ يعني من عجائب صنائعه ‏{‏إن في ذلك لآيات لكل صبار‏}‏ يعين على ما أمر الله ‏{‏شكور‏}‏ لإنعامه ‏{‏وإذا غشيهم موج كالضلل‏}‏ يعني كالجبال وقيل كالسحاب شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها ‏{‏دعو الله مخلصين له الدين‏}‏ معناه أن الإنسان إذا وقع في شدة ابتهل إلى الله بالدعاء وترك كل من عداه ونسي جميع ما سواه فاذا نجا من تلك الشدة فمنهم من يبقى على تلك الحالة وهو المقتصد وهو قوله تعالى ‏{‏فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد‏}‏ يعني عدل موفٍ في البر بما عاهد عليه الله في البحر من التوحيد والثبوت على الإيمان وقيل نزلت في عكرمة بن أبي جهل وذلك أنه هرب عام الفتح إلى البحر فجاءهم ريح عاصف فقال عكرمة‏:‏ لئن أنجانا الله من هذا لأرجعن إلى محمد صلى الله عليه سلم ولأضعن يده في يدي فسكت الريح ورجع عكرمة إلى مكة وأسلم وحسن إسلامه ومنهم من لم يوف بما عاهد وهو المراد بقوله ‏{‏وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار‏}‏ يعني غدار ‏{‏كفور‏}‏ يعني جحود لأنعمنا عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم‏}‏ يعني خافوا ربكم ‏{‏وأخشوا‏}‏ يعني وخافوا ‏{‏يوماً لا يجزي‏}‏ يعني لا يقضي ولا يغني ‏{‏والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً‏}‏ قيل معنى الآية إن الله ذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة وهما الوالد والولد فنبه بالأعلى على الأدنى وبالأدنى على الأعلى فالوالد يجزي عن ولده لكمال شفقته عليه والولد يجزي عن والده لما له من حق التربية وغيرها فإذا كان يوم القيامة فكل إنسان يقول نفسي ولا يهتم بقريب ولا بعيد كما قال ابن عباس كل امرئ تهمه نفسه ‏{‏إن وعد الله حق‏}‏ قيل إنه تحقيق اليوم معناه اخشوا يوماً هذا شأنه وهو كائن بوعد الله به ووعده حق وقيل الآية تحقيق بعدم الجزاء يعني لا يجزي والد عن ولده في ذلك اليوم والقول الأول أحسن وأظهر ‏{‏فلا تغرنكم الحياة الدنيا‏}‏ يعني لأنها فانية ‏{‏ولا يغرنكم بالله الغرور‏}‏ يعني الشيطان‏:‏ قال سعيد بن جبير يعمل بالمعاصي ويتمنى المغفرة‏.‏ قوله تعالى ‏{‏إن الله عنده علم الساعة الآية نزلت في الحارث بن عمرو بن حارثة بن حفصة من أهل البادية أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الساعة ووقتها وقال إن أرضنا أجدبت فقل لي متى ينزل الغيث وتركت امرأتي حبلى فمتى تلد ولقد علمت أين ولدت فبأي أرض أموت فأنزل الله هذه الآية ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «مفاتيح الغيب خمس إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير» ومعنى الآية إن الله عنده علم الساعة فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة أو أي شهر أو أي يوم ليلاً أو نهاراً ‏{‏وينزل الغيث‏}‏ فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث ليلاً أو نهاراً إلا الله ‏{‏ويعلم ما في الأرحام‏}‏ أذكر أم أنثى أحمر أم أسود تام الخلقة أم ناقص ‏{‏وما تدري نفس ماذا تكسب غداً‏}‏ من خير أو شر ‏{‏وما تدري نفس بأي أرض تموت‏}‏ يعني ليس أحد من الناس يعلم أين مضجعه من الأرض في بر أو بحر في سهل أو جبل ‏{‏إن الله عليم‏}‏ يعني بهذه الأشياء وبغيرها ‏{‏خبير‏}‏ أي ببواطن الأشياء كلها ليس علمه محيطاً بالظاهر فقط بل علمه محيط بالظاهر والباطن قال ابن عباس‏:‏ هذه الخمسة لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مصطفى فمن ادعى أنه يعلم شيئاً من هذه الأمور فإنه كفر بالقرآن لأنه خالفه والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه‏.‏

سورة السجدة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏2‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏3‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏4‏)‏ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه‏}‏ يعني لا شك في أنه ‏{‏من رب العالمين أم يقولون‏}‏ يعني بل يقولون يعني المشركين ‏{‏افتراه‏}‏ يعني اختلقه محمد صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه ‏{‏بل هو الحق‏}‏ يعني القرآن ‏{‏من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك‏}‏ يعني العرب كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير قبل محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله عليه سلم‏.‏ فإن قلت إذا لم يأتهم رسول لم تقم عليهم حجة‏.‏ قلت‏:‏ أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا من جهة الرسل فلا وأما قيام الحجة بمعرفة الله وتوحيده فنعم لأن معهم أدلة العقل الموصلة إلى ذلك في كل زمان ‏{‏لعلهم يهتدون‏}‏ يعني تنذرهم راجياً اهتداءهم ‏{‏الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون‏}‏ تقدم تفسيره‏.‏ قوله تعالى ‏{‏يدبر الأمر‏}‏ يعني يحكم الأمر وينزل القضاء والقدر وقيل ينزل الوحي مع جبريل عليه السلام ‏{‏من السماء إلى الأرض ثم يعرج‏}‏ يعني يصعد ‏{‏إليه‏}‏ جبريل بالأمر ‏{‏في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون‏}‏ يعني مسافة ما بين السماء والأرض خمسمائة سنة فيكون مقدار نزوله إلى الأرض ثم صعوده إلى السماء في مقدار ألف سنة لو ساره أحد من بني آدم وجبريل ينزل ويصعد في مقدار يوم من أيام الدنيا وأقل من ذلك وكذلك الملائكة كلهم أجمعون وقيل معنى الآية أنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا ثم يعرج إليه أي يرجع الأمر والتدبير إليه بعد فناء الدينا وانقطاع أمر الآمر وحكم الحاكم في يوم كان مقداره ألف سنة وهو يوم القيامة‏.‏ فإن قلت قال في موضع آخر‏:‏ تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فكيف الجمع بينهما‏.‏ قلت أراد بقوله خمسين ألف سنة مدة المسافة بين الأرض وسدرة المنتهى التي هي مقام جبريل عليه السلام يقول يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا‏.‏ وقيل كلها في القيامة فيكون على بعضهم مثل ألف سنة وعلى بعضهم خمسين ألف سنة وهذا في حال الكفار وأما على المؤمنين فدون ذلك كما جاء في الحديث‏:‏ «إنه يكون على المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا» قال إبراهيم التيمي‏:‏ لا يكون على المؤمنين إلا كما يكون ما بين الظهر والعصر وقيل يحتمل أن يكون هذا أخباراً عن شدته وهوله ومشقته وقال ابن أبي مليكة‏:‏ دخلت أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان على ابن عباس فسأله ابن فيروز عن هذه الآية وعن مقدار خمسين ألف سنة‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ رضي الله عنهما أيام سماها الله تعالى لا أدري ما هي وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 14‏]‏

‏{‏ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏6‏)‏ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ‏(‏10‏)‏ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏11‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏13‏)‏ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك عالم الغيب والشهادة‏}‏ يعني الذي صنع ما ذكر من خلق السموات والأرض هو عالم الغيب والشهادة أي ما غاب عن خلقه لا تخفى عليه خافية والشهادة بمعنى ما حضر وظهر ‏{‏العزيز‏}‏ أي الممتنع المنتقم من أعدائه ‏{‏الرحيم‏}‏ بأوليائه وأهل طاعته‏.‏ قوله تعالى ‏{‏الذي أحسن كل شيء خلقه‏}‏ قال ابن عباس أتقنه وأحكمه وقيل علم كيف يخلق كل شيء وقيل خلق كل حيوان على صورة لم يخلق البعض على صورة البعض فكل حيوان كامل في صورته حسن في شكله وكل عضو من أعضائه مقدر على ما يصلح به معاشه وقيل معناه ألهم خلقه ما يحتاجون إليه وعلمهم إياه‏.‏ وقيل معناه أحسن إلى كل خلقه ‏{‏وبدأ خلق الإنسان من طين‏}‏ يعني آدم ‏{‏ثم جعله نسله‏}‏ يعني ذريته ‏{‏من سلالة‏}‏ أي من نطفة تنسل من الإنسان ‏{‏من ماء مهين‏}‏ أي ضعيف ‏{‏ثم سواه‏}‏ أي سوى خلقه ‏{‏ونفخ فيه من روحه‏}‏ أضاف إليه الروح إضافة تشريف كبيت الله وناقة الله ثم ذكر ما يترتب على نفخ الروح في الجسد فقال ‏{‏وجعل لكم‏}‏ أي خلق بعد أن كنتم نطفاً مواتاً ‏{‏السمع والأبصار والأفئدة‏}‏ قيل قدم السمع لأن الإنسان يسمع أولاً كلاماً فينظر إلى قائله ليعرفه ثم يتفكر بقلبه في ذلك الكلام ليفهم معناه ووحد السمع لأن الإنسان يسمع الكلام من اي جهة كان ‏{‏قليلاً ما تشكرون‏}‏ يعني أنكم لا تشكرون رب هذه النعمة فتوحدوه إلا قليلا‏.‏ قوله تعالى ‏{‏وقالوا‏}‏ يعني منكري البعث ‏{‏أئذا ضللنا‏}‏ هلكنا ‏{‏في الأرض‏}‏ والمعنى صرنا تراباً ‏{‏أئنا لفي خلق جديد‏}‏ استفهام إنكاري قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏بل هم بلقاء ربهم كافرون‏}‏ بالبعث بعد الموت ‏{‏قل يتوفاكم‏}‏ أي يقبض أرواحكم حتى لا يبقى أحد ممن كتب عليه الموت ‏{‏ملك الموت‏}‏ وهو عزرائيل عليه السلام ‏{‏الذي وكل بكم‏}‏ أي أنه لا يغفل عنكم وإذا جاء أجل أحدكم لا يؤخر ساعة ولا شغل له إلا ذلك‏.‏ روي أن ملك الموت جعلت له الدنيا مثل راحة اليد يأخذ منها صاحبها ما أحب من غير مشقة، فهو يقبض أرواح الخلائق من مشارق الأرض ومغاربها وله أعوان من الملائكة ملائكة الرحمة وملائكة العذاب‏.‏ وقال ابن عباس إن خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب، وقال مجاهد‏:‏ جعلت له الأرض مثل الطست يتناول منها حيث يشاء، وقيل إن ملك الموت على معراج بين السماء والأرض فتنزع أعوانه روح الإنسان، فإذا بلغ ثغره نحره قبضه ملك الموت‏.‏ عن معاذ بن جبل قال‏:‏ إن لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب، وهو يتصفح وجوه الناس فما من أهل بيت إلا وملك الموت يتصفحهم في كل يوم مرتين، فإذا رأى إنساناً قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة وقال له الآن تنزل بك سكرات الموت‏.‏

وقوله ‏{‏ثم إلى ربكم ترجعون‏}‏ أي تصيرون إلى ربكم أحياء فيجزيكم بأعمالكم‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏ولو ترى إذ المجرمون‏}‏ أي المشركون ‏{‏ناكسوا رؤوسهم عند ربهم‏}‏ أي يطأطئونها حياء من ربهم وندماً على ما فعلوا عند ربهم يقولون ‏{‏ربنا أبصرنا‏}‏ أي ما كنا به مكذبين ‏{‏وسمعنا‏}‏ يعني منك تصديق ما أتتنا به رسلك وقيل أبصرنا معاصينا وسمعنا ما قيل فيها ‏{‏فارجعنا‏}‏ أي فارددنا إلى الدنيا ‏{‏نعمل صالحاً إنا موقنون‏}‏ أي في الحال آمنا ولكن لا ينفع ذلك الإيمان ‏{‏ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها‏}‏ أي رشدها وتوفيقها للإيمان ‏{‏ولكن حق القول مني‏}‏ أي وجب القول مني ‏{‏لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏}‏ أي من كفار الجن والإنس ‏{‏فذوقوا‏}‏ يعني فإذا دخلوا النار قالت لهم الخزنة ذوقوا ‏{‏بما نسيتم لقاء يومكم‏}‏ أي تركتم الإيمان في الدنيا ‏{‏هذا إنا نسيناكم‏}‏ يعني تركناكم بالكلية غير ملتفت إليكم كما يفعل بالناس قطعاً لرجائكم ‏{‏وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون‏}‏ أي من الكفر والتكذيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏15‏)‏ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها‏}‏ أي وعظوا بها ‏{‏خروا سجداً‏}‏ يعني سقطوا على وجوههم ساجدين ‏{‏وسبحو بحمد ربهم‏}‏ يعني صلوا بأمر ربهم وقيل قالوا سبحان الله وبحمده ‏{‏وهم لا يستكبرون‏}‏ يعني عن الإيمان به والسجود له ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عمر قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ويسجدون حتى ما يجد أحدنا مكاناً لوضع جبهته في غير وقت الصلاة»‏.‏ ‏(‏م‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلنا أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» وهذه من عزائم سجود القرآن فتسن للقارئ وللمستمع‏.‏ قوله تعالى ‏{‏تتجافى جنوبهم‏}‏ يعني ترتفع وتنبو ‏{‏عن المضاجع‏}‏ جمع مضجع وهو الموضع الذي يضطجع عليه يعني الفرش، وهم المتهجدون بالليل الذي يقيمون الصلاة، وقال أنس نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ عن أنس في قوله ‏{‏تتجافى جنوبهم عن المضاجع‏}‏ نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة أخرجه الترمذي وقال الحديث حسن غريب صحيح‏.‏ وفي رواية أبي داود عنه قال كانوا يتنفلون ما بين المغرب والعشاء أي يصلون، وهو قول أبي حازم ومحمد بن المنكدر وقيل هي صلاة الأوابين‏.‏ روي عن ابن عباس قال‏:‏ إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء وهي صلاة الأوابين وقال عطاء‏:‏ هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الأخيرة والفجر في جماعة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله» أخرجه مسلم من حديث عثمان بن عفان‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا» وأشهر الأقاويل أن المراد منه صلاة الليل وهو قول الحسن ومجاهد ومالك والأوزاعي وجماعة‏.‏

فصل‏:‏ في فضل قيام الليل والحث عليه

عن معاذ بن جبل قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه وهو يسير، فقلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار‏.‏ قال «سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت، ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ ‏{‏تتجافى جنوبهم عن المضاجع‏}‏ حتى بلغ ‏{‏جزاء بما كانوا يعملون‏}‏، ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه‏؟‏ قلت بلى يا رسول الله‏.‏ قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد، ثم قال ألا أخبرك بملاك ذلك كله؛ قلت بلى يا رسول الله قال فأخذ بلسانه وقال اكفف عليك هذا‏.‏ فقلت يا رسول الله وإنما لمؤاخذون بما نتكلم فقال‏:‏ ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجهوهم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم»

أخرجه الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى ربكم وتكفير السيئات ومنهاة عن الآثام ومطردة الداء عن الجسد» أخرجه الترمذي‏.‏ عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عجب ربنا من رجلين رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته فيقول الله عز وجل لملائكته انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله وانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع فرجع حتى أهريق دمه‏.‏ فيقول الله تعالى لملائكته انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي حتى أهريق دمه» أخرجه الترمذي بمعناه ‏(‏م‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» ‏(‏ق‏)‏ عن عائشة قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تورمت قدماه فقلت لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أكون عبداً شكوراً» عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن في الجنة غرفاً يرى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها أعدها الله لمن ألان الكلام وأطعم الطعام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام» أخرجه الترمذي‏.‏ ‏(‏خ‏)‏ عن الهيثم بن أبي سنان أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه في قصة يذكر النبي صلى الله عليه وسلم يقول «إن أخاً لكم لا يقول الرفث» يعني بذلك ابن رواحة قال‏:‏

وفينا رسول الله يتلو كتابه *** إذا انشق معروف من الفجر ساطع

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا *** به موقنات ما إذا قال واقع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه *** إذا استثقلت بالكافرين المضاجع

أخرجه البخاري وليس للهيثم بن سنان‏.‏ عن أبي هريرة في الصحيحين غير هذا الحديث‏.‏ وقوله ‏{‏يدعون ربهم خوفاً وطمعاً‏}‏ قال ابن عباس خوفاً من النار وطمعاً في الجنة ‏{‏ومما رزقناهم ينفقون‏}‏ قيل أراد به الصدقة المفروضة وقيل بل هو عام في الواجب والتطوع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 26‏]‏

‏{‏فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏17‏)‏ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ‏(‏18‏)‏ أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏20‏)‏ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ‏(‏22‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏23‏)‏ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ‏(‏24‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏25‏)‏ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين‏}‏ أي مما تقربه أعينهم فلا يلتفتون إلى غيره قال ابن عباس هذا مما لا تفسير له وقيل أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم ‏{‏جزاء بما كانوا يعملون‏}‏ أي من الطاعات في دار الدنيا ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يقول الله تبارك وتعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرؤوا إن شئتم‏:‏ فلا تعلم نفس ما أخفي لم من قرة أعين» قوله تعالى ‏{‏أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون‏}‏ نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط، كان بينهما تنازع وكلام في شيء، فقال الوليد لعلي اسكت فانك صبي وأنا شيخ وإني أبسط منك لساناً، وأحد منك سناناً وأشجع منك جناباً وأملأ منك حشواً في الكتيبة، فقال له علي اسكت فانك فاسق، فأنزل الله هذه الآية وقوله لا يستوون أراد جنس المؤمنين وجنس الفاسقين ولم يرد مؤمناً واحداً ولا فاسقاً واحداً ‏{‏أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى‏}‏ أي التي يأوي إليها المؤمنون ‏{‏نزلاً‏}‏ هو ما يهيأ للضيف عند نزوله ‏{‏بما كانوا يعملون‏}‏ يعني من الطاعات في دار الدنيا ‏{‏وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر‏}‏ أي سوى العذاب الأكبر، قال ابن عباس العذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها، وعنه أنه الحدود وقيل هو الجوع بمكة حتى أكلوا الجيف والعظام والكلاب سبع سنين، وقال ابن مسعود هو القتل بالسيف يوم بدر والأكبر هو عذاب جهنم ‏{‏لعلهم يرجعون‏}‏ إي إلى الإيمان يعني من بقي منهم بعد القحط وبعد بدر ‏{‏ومن أظلم‏}‏ أي لا أحد أظلم ‏{‏ممن ذكر بآيات ربه‏}‏ أي بدلائل وحدانيته وإنعامه عليه ‏{‏ثم أعرض عنها‏}‏ أي ترك الإيمان بها ‏{‏إنا من المجرمين‏}‏ يعني المشركين ‏{‏منتقمون‏}‏ معناه أنهم لما لم يرجعوا بالعذاب الأدنى فانا منهم منتقمون بالعذاب الأكبر‏.‏ قوله تعالى ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب‏}‏ أي التوراة ‏{‏فلا تكن في مرية‏}‏ أي في شك ‏{‏من لقائه‏}‏ أي من لقاء موسى ليلة المعراج، قاله ابن عباس ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «رأيت ليلة أسري بي موسى رجلاً آدم طوالاً جعداً كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى رجلاً مربوعاً مربوع الخلق إلى الحمرة وإلى البياض سبط الشعر، ورأيت مالكاً خازن النار، والدجال في آيات أراهن الله أياه فلا تكن في مرية من لقائه»

‏(‏م‏)‏ عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أتيت على موسى ليلة المعراج ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره» فإن قلت قد صح في حديث المعراج أنه رآه في السماء السادسة عند مراجعته في الصلوات فكيف الجمع بين هذين الحديثين‏.‏ قلت يحتمل أن تكون رؤيته في قبره عند الكثيب الأحمر كان قبل صعوده إلى السماء وذلك في طريقه إلى بيت المقدس، ثم لما صعد على السماء السادسة وجده هناك قد سبقه لما يريد الله عز وجل وهو على كل شيء قدير‏.‏ فإن قلت كيف تصح منه الصلاة في قبره وهو ميت وقد سقط عنه التكليف وهو في دار الآخرة وليست دار عمل‏.‏ وكذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الأنبياء وهم يحجون فما الجواب عن هذا‏؟‏ قلت يجاب عنه بأجوبة أحدها‏:‏ أن الأنبياء كالشهداء بل هم أفضل منهم والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فلا يبعد أن يحجوا أو يصلوا كما صح في الحديث وأن يتقربوا إلى الله بما استطاعوا وإن كانوا قد ماتوا لأنهم بمنزلة الأحياء في هذه الدار التي هي دار العمل، إلى أن تفنى ثم يرحلون إلى دار الجزاء التي هي الجنة‏.‏ الجواب الثاني‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم رأى حالهم الذي كانوا عليه في حياتهم ومثلوا له كيف كانوا وكيف كان حجهم وصلاتهم‏.‏ الجواب الثالث‏:‏ أن التكليف وإن ارتفع عنهم في الآخرة لكن الذكر والشكر والدعاء لا يرتفع، قال الله تعالى ‏{‏دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام‏}‏ وقال صلى الله عليه وسلم «يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس» فالعبد يعبد ربه في الجنة أكثر مما كان يعبده في الدنيا وكيف لا يكون ذلك وقد صار حاله مثل حال الملائكة والذين قال الله في حقهم ‏{‏يسبحون الليل والنهار لا يفترون‏}‏ غاية ما في الباب أن العبادة ليست عليهم بتكليف بل هي على مقتضى الطبع والله أعلم، وقيل في قوله ‏{‏فلا تكن في مرية من لقائه‏}‏ أي تلقى موسى كتاب الله بالرضا والقبول ‏{‏وجعلناه‏}‏ أي الكتاب ‏{‏هدى لبني إسرائيل وجعلنا منهم‏}‏ أي من بني إسرائيل ‏{‏أئمة‏}‏ أي قادة للخير يقتدى بهم وهم الأنبياء الذين كانوا في بني إسرائيل وقيل هم أتباع الأنبياء ‏{‏يهدون بأمرنا‏}‏ يعني يدعون الناس إلى طاعتنا ‏{‏لما صبروا‏}‏ يعني على دينهم وعلى البلاء من عدوهم بمصر ‏{‏وكانوا بآياتنا يوقنون‏}‏ يعني أنها من الله تعالى ‏{‏إن ربك هو يفصل‏}‏ أي يقضي ويحكم ‏{‏بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏ قيل هم الأنبياء وأممهم وقيل هم المؤمنون والمشركون قوله تعالى ‏{‏أو لم يهد لهم‏}‏ أي نبين لهم ‏{‏كم أهلكنا‏}‏ يعني كثرة من أهلكنا ‏{‏من قبلهم من القرون‏}‏ يعني الأمم الخالية ‏{‏يمشون في مساكنهم‏}‏ يعني أهل مكة يسيرون في بلادهم ومنازلهم إذا سافروا ‏{‏إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون‏}‏ يعني آيات الله ومواعظة فيتعظون بها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 30‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ‏(‏27‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏28‏)‏ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏29‏)‏ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز‏}‏ أي الأرض اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها قال ابن عباس هي أرض باليمن وقيل هي أبين ‏{‏فنخرج به‏}‏ أي بذلك الماء ‏{‏زرعاً تأكل منه أنعامهم‏}‏ يعني العشب والتبن ‏{‏وأنفسهم‏}‏ أي من الحبوب والأقوات ‏{‏أفلا يبصرون‏}‏ يعني فيعتبروا‏.‏ قوله تعالى ‏{‏ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين‏}‏ قيل أراد بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الحكم والقضاء بين العباد، وذلك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للكفار إن لنا يوماً ننعم فيه ونستريح ويحكم فيه بيننا وبينكم‏.‏ فقال الكفار استهزاء متى هذا الفتح أي القضاء والحكم، وقيل هو فتح مكة وقيل يوم بدر، وذلك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون للكفار إن الله ناصرنا ومظهرنا عليكم فيقولون متى هذا الفتح ‏{‏قل يوم الفتح‏}‏ يعني يوم القيامة ‏{‏لا ينفع الذين كفروا إيمانهم‏}‏ يعني لا يقبل منهم الإيمان ومن حمل يوم الفتح على فتح مكة أو القتل يوم بدر، قال معناهم لا ينفع الذين كفروا إيمانهم إذا جاءهم العذاب وقتلوا ‏{‏ولا هم ينظرون‏}‏ يعني يمهلون ليتوبوا ويعتذروا ‏{‏فأعرض عنهم‏}‏ قال ابن عباس نسختها آية السيف ‏{‏وانتظر‏}‏ يعني موعدي لك بالنصر عليهم ‏{‏إنهم منتظرون‏}‏ أي بك حوادث الزمان وقيل معناه انتظر عذابنا إياهم فهم منتظرون ذلك‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن ابي هريرة رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرآ في الفجر يوم الجمعة الم تنزيل الكتاب وهل أتى على الإنسان» عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل الكتاب وتبارك لذي بيده الملك» أخرجه الترمذي‏.‏ وقال طاوس تفضلان عن كل سورة في القرآن بسبعين حسنة أخرجه الترمذي‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه‏.‏

سورة الأحزاب

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏1‏)‏ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏2‏)‏ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏3‏)‏ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين‏}‏ نزلت في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور وعمر بن سفيان السلمي، وذلك أنهم قدموا المدينة فنزلوا على عبدالله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين بعد قتال أحد، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه فقام معهم عبدالله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده عمر بن الخطاب ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة، وقل إن لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربك، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر يا رسول الله ائذن لي في قتلهم، فقال «إني أعطيتهم الأمان» فقال عمر اخرجوا في لعنة الله وغضبه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يخرجهم من المدينة‏.‏ فأنزل الله تعالى ‏{‏يا أيها النبي اتق الله‏}‏ أي دم على التقوى وقيل معناه اتق الله ولاتنقض العهد بينك وبينهم وقيل الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته ولا ‏{‏تطع الكافرين‏}‏ يعني من أهل مكة يعني أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور والمنافقين يعني من أهل المدينة عبدالله بن أبي وعبدالله بن سعد وطعمة ‏{‏إن الله كان عليماً‏}‏ أي بخلقه قبل أن يخلقهم ‏{‏حكيماً‏}‏ أي فيما دبره لهم ‏{‏واتبع ما يوحى إليك من ربك‏}‏ يعني من وفاء العهد وترك طاعة الكافرين والمنافقين ‏{‏إن الله كان بما يعملون خبيراً وتوكل على الله‏}‏ أي ثق بالله وكل أمرك إليه ‏{‏وكفى بالله وكيلاً‏}‏ يعني حافظاً لك وقيل كفيلاً برزقك‏.‏ قوله تعالى ‏{‏ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه‏}‏ نزلت في أبي معمر جميل بن معمر الفهري، وكان رجلاً لبيباً حافظاً لما يسمع فقالت قريش ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان وكان يقول إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلما هزم الله المشركين يوم بدر انهزم أبو معمر فيهم فلقيه أبو سفيان وإحدى نعليه في يده والأخرى في رجله، فقال له يا أبا معمر ما حال الناس‏.‏ فقال انهزموا فقال له فما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك‏.‏ فقال أبو معمر ما شعرت إلا أنهما في رجلي‏.‏ فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده‏.‏ وعن أبي ظبيان قال‏:‏ قلنا لابن عباس أرأيت قول الله ‏{‏ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه‏}‏ ما عنى بذلك‏؟‏ قال «قام نبي الله صلى الله عليه وسلم يوماً يصلي فخطر خطرة‏.‏

فقال المنافقون الذين يصلون معه ألا ترون أن له قلبين قلباً معكم وقلباً معهم فأنزل الله ‏{‏ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه‏}‏ «أخرجه الترمذي‏.‏ وقال حديث حسن قوله خطر خطرة يريد الوسوسة التي تحصل للإنسان في صلاة‏.‏ قيل في معنى الآية أنه لما قال الله تعالى ‏{‏يا أيها النبي اتق الله‏}‏ فكان ذلك أمراً بالتقوى‏.‏ فكأنه قال ومن حقها أن لا يكون في قلبك تقوى غير الله، فإن المرء ليس له قلبان حتى يتقي الله بأحدهما وبالآخر غيره، وقيل إن هذا مثل ضربه الله تعالى للمظاهر من امرأته وللمتبني ولد غيره، فكما لا يكون لرجل قلبان لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فالآخر فضله عليه محتاج إليه، وإما أن يفعل بهذا ما لا يفعل بذاك، فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً عالماً جاهلاً موقناً شاكاً في حالة واحدة، وهما حالتان متنافيتان فكذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى يكون له أمان ولا يكون ولد واحد ابن رجلين‏.‏ قوله تعالى ‏{‏وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم‏}‏ وصورة الظهار أن يقول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي، يقول الله وما جعل نساءكم التي تقولون لهن هذا في التحريم كأمهاتكم، ولكنه منكم منكر وزور وفيه كفارة، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله في سورة المجادلة‏.‏ قوله تعالى ‏{‏وما جعل أدعياءكم‏}‏ يعني الذين تتبنونهم ‏{‏أبناءكم‏}‏ وفيه نسخ التبني، وذلك أن الرجل كان في الجاهلية يتبنى الرجل فيجعله كالابن المولود يدعوه إليه الناس ويرث ميراثه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعتق زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي وتبناه قبل الوحي، وآخى بينه وبين حمزة بن عبدالمطلب، فلما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وكانت تحت زيد بن حارثة، قال المنافقون تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك فأنزل الله هذه الآية ونسخ بها التبني ‏{‏ذلكم قولكم بأفواهكم‏}‏ أي لا حقيقة له يعني قولهم زيد بن محمد وادعاء النسب لا حقيقة له ‏{‏والله يقول الحق‏}‏ يعني قوله الحق ‏{‏وهو يهدي السبيل‏}‏ يعني يرشد إلى سبيل الحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏5‏)‏ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ يعني الذين ولدوهم فقولوا زيد بن حارثة ‏{‏هو أقسط عند الله‏}‏ يعني أعدل عند الله ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عمر قال‏:‏ إن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل ‏{‏ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله‏}‏ الآية ‏{‏فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين‏}‏ يعني فهم إخوانكم ‏{‏ومواليكم‏}‏ أي كانوا محررين وليسوا ببنيكم أي فسموهم بأسماء إخوانكم في الدين، وقيل معنى مواليكم أولياؤكم في الدين ‏{‏وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به‏}‏ أي قبل النهي فنسبتموه إلى غير أبيه ‏{‏ولكن ما تعمدت قلوبكم‏}‏ أي من دعائهم إلى غير آبائهم بعد النهي وقيل فيما أخطأتم به أن تدعوه إلى غير أبيه وهو يظن أنه كذلك ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام» قوله عز وجل ‏{‏النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم‏}‏ يعني من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه، عليهم ووجوب طاعته وقال ابن عباس إذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي صلى الله عليه وسلم أولى بهم من طاعة أنفسهم، وهذا صحيح لأن أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، ورسول الله صلى الله عليه سلم يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم، وقيل هو أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه، وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الجهاد فيقول قوم نذهب فنستأذن من آبائنا وأمهاتنا، فنزل الآية‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، واقرؤوا إن شئتم ‏{‏النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم‏}‏ فأيما مؤمن ترك مالاً فلترثه عصبته من كانوا ومن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه» عصبة الميت من يرثه سوى من له فرض مقدر وقوله أو ضياعاً أي عيالاً وأصله مصدر ضاع يضيع ضياعاً، وإن كسرت الضاد كان جمع ضائع‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وأزواجه أمهاتهم‏}‏ يعني أمهات المؤمنين في تعظيم الحرمة وتحريم نكاحهن على التأبيد لا في النظر إليهن والخلوة بهن، فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب ولا يقال لبناتهن هن أخوات المؤمنين ولا لأخوانهن وأخواتهن هن أخوال المؤمنين وخالاتهم‏.‏ قال الشافعي تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر وهي أخت عائشة أم المؤمنين ولم يقل هي خالة المؤمنين، وقيل إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن أمهات المؤمنين والمؤمنات الرجال والنساء وقيل كن أمهات الرجال دون النساء، بدليل ما روي عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة يا أمه‏.‏

فقالت لست لك بأم أنا أم رجالكم‏.‏ فبان بذلك أن معنى الأمومة إنما هو تحريم نكاحهن ‏{‏وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض‏}‏ يعني في الميراث قيل كان المسلمون يتوارثون بالهجرة، وقيل آخرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس فكان يواخي بين الرجلين فإذا مات أحدهما ورثه الآخر دون عصبته، حتى نزلت ‏{‏وأولي الأرحام بعضهم أولى ببعض‏}‏ وقيل في معنى الآية لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر ‏{‏في كتاب الله‏}‏ أي في حكم الله ‏{‏من المؤمنين‏}‏ الذين آخى رسول الله صلى الله عليه سلم بينهم ‏{‏والمهاجرين‏}‏ يعني أن ذوي القرابات أولى بعضهم ببعض فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة وصارت الموارثة بينهم بالقرابة ‏{‏إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً‏}‏ يعني الوصية للذين يتولونه من المعاقدين، وذلك أن الله تعالى لما نسخ التوارث بالخلف والإخاء والهجرة، أباح أن يوصي لمن يتولاه بما أحب من ثلث ماله، وقيل أراد بالمعروف النصر وحفظ الحرمة بحق الإيمان والهجرة، وقيل معناه إلا أن توصوا إلى قرابتكم بشيء وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة ‏{‏كان ذلك‏}‏ أي الذي ذكر من أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض ‏{‏في الكتاب‏}‏ أي في اللوح المحفوظ وقيل في التوراة ‏{‏مسطوراً‏}‏ أي مكتوباً مثبتاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏7‏)‏ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم‏}‏ أي على الوفاء بما حلموا وأن يصدق بعضهم بعضاً ويبشر بعضهم ببعض، وقيل على أن يعبدوا الله ويدعوا الناس إلى عبادته وينصحوا لقومهم ‏{‏ومنك‏}‏ يعني محمد ‏{‏ومن نوح وأبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم‏}‏ خص هؤلاء الخمسة بالذكر من بين النبيين لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولوا العزم من الرسل، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم في الذكر تشريفاً له وتفضيلاً‏.‏ لما روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه سلم قال «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم بالبعث» قال قتادة وذلك قول الله ‏{‏وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح‏}‏ فبدأ به صلى الله عليه وسلم ‏{‏وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً‏}‏ أي عهداً شديداً على الوفاء بما حملوا من تبليغ الرسالة ‏{‏ليسأل الصادقين عن صدقهم‏}‏ يعني أخذ ميثاقهم لكي يسأل الصادقين يعني النبيين عن تبليغهم الرسالة والحكمة في سؤالهم مع علمه سبحانه وتعالى صادقون تبكيت من أرسلوا إليهم وقيل ليسأل الصادقين عن صدقهم عن عملهم لله عز وجل وقيل ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم في قلوبهم ‏{‏وأعد للكافرين عذاباً أليماً‏}‏ قوله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم‏}‏ وذلك حين حوصر المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أيام الخندق ‏{‏إذ جاءتكم جنود‏}‏ يعني الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير ‏{‏فأرسلنا عليهم ريحاً‏}‏ يعني الصبا قال عكرمة قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقالت الشمال إن الحرة لا تسري بالليل‏.‏ فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» وقيل الصبا ريح فيها روح ما هبت على محزون إلا ذهب حزنه، قوله تعالى ‏{‏وجنوداً لم تروها‏}‏ يعني الملائكة، ولم تقاتل ملائكة يومئذ فبعث الله عز وجل تلك الليلة ريحاً باردة فقلعت الأوتاد وقطعت أطناب الفساطيط وأطفأت النيران وأكفأت القدور وما جاءت الخيل بعضها في بعض وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم، حتى كان سيد كل حي يقول يا نبي فلان النجاء النجاء هلموا إلي فإذا اجتمعوا عنده قال النجاء النجاء فانهزموا من غير قتال لما بعث الله عليهم من الرعب ‏{‏وكان الله بما تعملون بصيراً‏}‏‏.‏

ذكر غزوة الخندق وهي الأحزاب

قال‏:‏ البخاري قال موسى بن عقبة‏:‏ كانت في شوال سنة أربع من الهجرة‏.‏ وروي محمد بن إسحاق عن مشايخه قال‏:‏ دخل حديث بعضهم في بعض أن نفراً من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهو ابن قيس وأبو عمار الوائلي في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه سلم خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقالت لهم قريش يا معشر اليهود أنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، فديننا خير أم دينه‏؟‏ قالوا دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فهم الذين قال الله تعالى فيهم

‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت‏}‏ إلى قوله ‏{‏وكفى بجهنم سعيراً‏}‏ قال فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه سلم‏.‏ فاجتمعوا على ذلك ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا غطفان وقيساً وغيلان فاجتمعوا على ذلك وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وإن قريشاً قد بايعوهم على ذلك فأجابوهم وخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة، ومسعر بن رخيلة بن نويرة بن طريف فيمن تابعه من قومه من أشجع‏.‏ فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما اجتمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة، كان الذي أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق سلمان الفارسي وكان أو مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى الله عليه سلم وهو يومئذ حر‏.‏ فقال يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا ضربنا خندقاً علينا، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى أحكموه‏.‏ وروي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعاً فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلاً قوياً فقال المهاجرون سلمان منا وقال الأنصار سلمان منا فقال النبي صلى الله عليه وسلم سلمان من أهل البيت»‏.‏

قال عمرو بن عوف كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً فحفرنا، حتى إذا كنا تحت أخرج الله من بطن الخندق صخرة مروة حتى كسرت حديدنا وشقت علينا، فقلنا يا سلمان ارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بخبر هذه الصخرة، فإما أن يعدل عنها فإن المعدل قريب وإما أن يأمرنا فيها أمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه، قال «فرقي سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية، فقال يا رسول الله خرجت لنا صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يجبنا منها شيء قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمرك فإنا لا نحب أن نجاوز خطك، فهبط رسول الله صلى الله عليه سلم مع سلمان إلى الخندق واستند على شق الخندق وأخذ عليه الصلاة والسلام المعول من سلمان وضربها به ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها يعني المدينة، حتى كأنه مصباح في جوف بيت مظلم فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون معه، ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية فبرق منها برق حتى أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون معه ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه سلم فكسرها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون معه وأخذ بيد سلمان ورقي فقال‏:‏ بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئاً ما رأيت مثله قط فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم وقال‏:‏ أرأيتم ما يقول سلمان قالوا نعم يا رسول الله قال‏:‏ ضربت ضربتي الأولى فبرق البرق الذي رأيتم فأضاء لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثانية فبرق الذي رأيتم أضاء لي منها قصور قيصر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاء لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا»

فاستبشر المسلمون وقالوا‏:‏ الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحصر فقال المنافقون ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه ينظر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا قال‏:‏ فنزل القرآن‏:‏ ‏{‏وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً‏}‏ وأنزل الله‏:‏ ‏{‏قل اللهم مالك الملك‏}‏ الآية ‏(‏ق‏)‏ عن أنس قال «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال» اللهم إن العيش عيش الآخرة؛ فاغفر للأنصار المهاجرة «فقالوا مجيبين له‏:‏

نحن الذين بايعوا محمدا *** على الجهاد ما حيينا أبدا

عن البراء بن عازب قال» رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب وهو يقول‏:‏

والله لولا الله ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا

والمشركون قد بغوا علينا *** إذا أرادوا فتنة أبينا

ويرفع بها صوته‏.‏ «وفي رواية قد وارى التراب بياض إبطيه» رجعنا إلى حديث ابن إسحاق قال «لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجمتع الأسيال من دومة من الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نعمى إلى جانب أحد، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم وأمر بالذراري والنساء فرفعوا إلى الآطامن وخرج عدو الله حييّ بن أخطب من بني النضير حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وكان قد واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على وقومه وعاهده على ذلك، فلما سمعت صوت ابن أخطب أغلق دونه حصته فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له، فناداه حييّ يا كعب افتح لنا فقال‏:‏ ويحك يا حييّ إنك امرؤ مشؤوم إني قد عاهدت محمداً فلست بناقض ما بيني وبينه ولم أر منه إلا وفاء وصدقاً فقال‏:‏ ويحك افتح أكلمك قال‏:‏ ما أنا بفاعل‏.‏ قال‏:‏ والله إن أغلقت دوني إلا خوفاً أن آكل معك فأحفظ الرجل ففتح له فقال ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وبحر طام جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دومة وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نعمى إلى جانب أحد قد عاهودني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمداً ومن معه‏.‏ فقال‏:‏ له كعب جئتني والله بذلّ الدهر وبجام قد يهرق ماؤه ويرعد ويبرق ليس فيه شيء دعني ومحمداً وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاء‏.‏ فلم يزل حييّ بن أخطب بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له على أن أعطاه من الله عهداً ميثاقاً لئن رجعت قريش ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك‏.‏ فنقض كعب بن أسد العهد وبرئ مما كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فلما أنتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل، وهو يومئذ سيد الأوس وسعد بن عبادة أحد بني ساعدة وهو يومئذ سيد الخزرج، ومعهما عبدالله بن رواحة أخو الحارث بن الخزرج وخوات بن جبير أخو بني عمرو بن عوف‏.‏ فقال‏:‏» انطلقوا حتى تنظروا ما بلغنا عن هؤلاء القوم أحق أم لا فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تفتوا أعضاد الناس وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا للناس «

، فخرجوا حتى أتوهم فوجدهم على أخبث ما بلغهم عنهم ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ لا عقد بيننا وبينه ولا عهد فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه وكان رجلاً عنده حده، فقال له سعد بن معاذ‏:‏ دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا وقالوا‏:‏ عضل والقارة لغدر، عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه‏.‏ فقال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم «الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين»، وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف‏:‏ كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً‏.‏ وقال‏:‏ أوس بن قيظي أحد بني حارثة يا رسول الله إن بيوتنا لعورة من العدو، وذلك على الملأ من رجال قومه، فأذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فإنها خارجة من المدينة، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام المشركون عليها بعضاً وعشرين ليلة قريباً من شهر ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى، فلما اشتد البلاء على الناس بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجرى بينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما فيه‏.‏ فقالا‏:‏ يا رسول الله أشيء أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم أمر تحبه فتصنعه أم شيء تصنعه لنا‏.‏ قال «بل شيء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا أني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت ان أكسر عنكم شوكتهم» فقال‏:‏ له سعد بن معاذ يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأصنام لا نعبد الله ولا نعرفه ولا يطمعن أن يأكلوا منا تمرة واحدة إلا قرى أو بيعاً فحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ما لنا بهذا من حاجة والله ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت وذاك فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة ثم قال ليجهدوا علينا فأقام رسول الله صلى الله عليه سلم والمسلمون وعدوهم محاصروهم ولم يكن بينهم قتال، إلا أن فوارس من قريش عمرو بن عبد ود أخو بني عامر بن لؤي وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان ونوفل بن عبدالله بن ضرار بن الخطاب ومرداس أخو بني محارب بن فهر قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيلهم، فمروا على بني كنانة فقالوا تهيؤوا للحرب يا بني كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان، ثم أقبلوا نحو الخندق حتى وقفوا عليه فلما رأوه قالوا والله هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكاناً من الخندق ضيقاً وضربوا خيولهم فاقتحمت منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليه الثغرة التي اقتحموا منها وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحداً، فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مكانه فلما وقف هو وخيله، قال علي يا عمرو إنك كنت تعاهد الله لا يدعوك رجل من قريش إلى خلتين إلا أخذت منه إحداهما‏.‏ قال‏:‏ أجل قال له علي‏:‏ فإني أدعوك إلى الله ورسوله وإلى الإسلام قال لا حاجة لي بذلك‏.‏ قال‏:‏ إني أدعوك إلى النزال قال‏:‏ ولم يا ابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك‏.‏ فقال علي‏:‏ لكني والله أحب أن أقتلك فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ثم أقبل علي علي فتناولا وتجاولا فقتله علي وخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة، وقتل مع عمرو رجلان منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبدالدار أصابه سهم فمات بمكة ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة‏.‏ فقال‏:‏ يا معشر العرب قتله أحسن من هذه فنزل إليه علي فقتله فغلب المسلمون على جسده فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا حاجة لنا في جسدهم وثمنه فشأنكم به» فخلى بينهم وبينه قالت عائشة أم المؤمنين‏:‏ كنا يوم الخندق في حصن بني حارثة وكان من أحرز حصون المدينة وكانت أم سعد بن معاذ معنا في الحصن، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فمر سعد بن معاذ وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها وفي يده حربة وهو يقول‏:‏

لا بأس بالموت إذا حان الأجل *** فقالت‏:‏ له أمه الحق يا بني فقد والله أجزت‏.‏ قالت عائشة‏:‏ يا أم سعد والله لوددت أن درع سعد كانت اسبغ مما هي وخفت عليه حيث أصاب السهم منه‏.‏

قالت‏:‏ فرمي سعد يومئذ بسهم فقطع منه الأكحل رماه خباب بن قيس بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي فلما أصابه قال خذها وأنا ابن العرقة‏.‏ قال سعد‏:‏ عرق الله وجهك في النار، ثم قال سعد‏:‏ اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فابقني لها فإنه لا قوم أحب لي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة، وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية‏.‏ قال محمد بن إسحاق‏:‏ فيما بلغه أن صفية بنت عبد المطلب كانت في فارع حصن حسان بن ثابت قالت وكان حسان معنا مع النساء والصبيان، قالت صفية‏:‏ فمر بنا رجل من اليهود فجعل يطوف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون في نحر عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إذا أتانا آتٍ، قالت‏:‏ فقلت يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من اليهود وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فانزل إليه فاقتله‏.‏ فقال‏:‏ يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا‏.‏ قلت فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئاً اعتجرت ثم أخذت عموداً ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن‏.‏ فقلت يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل، قال‏:‏ ما لي بسلبه حاجة يا بنت عبد المطلب قالوا‏:‏ وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم، ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن غطفان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فأمرني بما شئت‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة» فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان نديماً لهم في الجاهلية‏.‏ فقال لهم‏:‏ يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بين وبينكم، قالوا صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم إن قريشاً وغطفان جاءوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه وإن قريشاً وغطفان ليسوا كهيئتكم البلد بلدكم به أموالكم وأولادكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره وإن قريشاً وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره إن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين هذا الرجل والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به، إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمداً حتى تناجزوه، قالوا لقد أشرت برأي ونصح ثم خرج حتّى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش‏:‏ قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمداً فقد بلغني أمر رأيت حقاً على أن أبلغكم نصحاً لكم فاكتموا علي‏.‏

قالوا نفعل‏.‏ قال‏:‏ تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك عنا أن نأخذ من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فنضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم‏.‏ فأرسل إليهم أن نعم‏.‏ فإن بعث إليكم يهود يلتمسون رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً‏.‏ ثم خرج حتى أتى غطفان فقال‏:‏ يا معشر غطفان أنتم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهمونني‏.‏ قالوا‏:‏ صدقت قال فاكتموا علي‏.‏ قالوا نفعل فقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم مثلما حذرهم‏.‏ فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس وكان ممن صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان‏.‏ فقالوا لهم إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغ مما بيننا وبينه فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً‏.‏ وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابهم ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمداً فإننا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تسيروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمد، فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان تعلمن والله إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحقّ فأرسلوا إلى بني قريظة إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا‏.‏ فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن وجدوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك شمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان إن والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً فأبوا عليهم‏.‏ وخذل الله عز وجل بينهم وبعث عليهم الريح في ليل شاتية شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل قوم ليلاً‏.‏

وروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي وروى غيره عن إبراهيم التيمي عن أبيه قالا قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان يا أبا عبد الله رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه قال نعم يا ابن أخي‏.‏ قال‏:‏ كيف كنتم تصنعون قال والله لقد كنا نجهد‏.‏ قال الفتى والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا ولخدمناه وفعلنا معه وفعلنا فقال حذيفة‏:‏ يا ابن أخي لقد رأيتني ليلة الأحزاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «من يذهب إلى هؤلاء القوم فيأتنا بخبرهم أدخله الله الجنة» فما قام منا رجل ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوناً من الليل ثم التفت إلينا فقال مثله فسكت القوم وما قام منا رجل ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوناً من الليل ثم إلتفت إلينا فقال‏:‏ «هل من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة»‏؟‏ فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا حذيفة ولم يكن لي بد من القيام حين دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ لبيك يا رسول الله، وقمت حتى أتيته فأخذني بيدي ومسح رأسي ووجهي ثم قال «ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم ولا تحدثن شيئاً حتى ترجع إلي‏.‏ ثم قال‏:‏ اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته» فأخذت سهمي وشددت على أسلابي انطلقت أمشي نحوهم كأنما أمشي في حمام فذهبت فدخلت في القوم وقد أرسل الله عليهم ريحاً وجنوداً وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء قال وأبو سفيان قاعد يصطلي فأخذت سهماً فوضعته في كبد قوسي فأردت أن أرميه ولو رميته لأصبته فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحدثن حدثاً حتى ترجع، فرددت سهمي في كنانتي، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء قام فقال يا معشر قريش ليأخذ كل منكم بيد جليسه فلينظر من هو‏؟‏ فأخذت بيد جليسي فقلت‏:‏ من أنت‏؟‏ فقال‏:‏ سبحان الله أما تعرفني أنا فلان بن فلان من هوازن فقال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بني قريظة وبلغنا عنه الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل‏:‏ ثم قال إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم‏.‏

وسمعت غطفان بما فعلت قريش فاستمروا راجعين إلى بلادهم‏.‏ قال‏:‏ فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني أمشي في حمام فأتيته وهو قائم يصلي فلما سلم أخبرته فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل، فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفء فأدفأني النبي صلى الله عليه وسلم فأنامني عند رجليه وألقى عليَّ طرف ثوبه وألصق صدري ببطن قدميه، فلم أزل نائماً حتى أصبحت فلما أصبحت، قال‏:‏ قم يا نومان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إذ جاؤوكم من فوقكم‏}‏ أي من فوق الوادي من قبل المشرق وهم أسد وغطفان وعليهم مالك بن عوف النصري وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وحيي بن أخطب في يهود قريظة ‏{‏ومن أسفل منكم‏}‏ يعني من بطن الوادي من قبل المغرب وهم قريش وكنانة عليهم أبو سفيان بن حرب من قريش ومن تبعه، وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي من قبل الخندق وكان الذي جر غزوة الخندق فيما قيل إجلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير من ديارهم ‏{‏وإذا زاغت الأبصار‏}‏ أي مالت وشخصت من الرعب وقيل مالت عن كل شيء فلم تنظر إلى عدوها ‏{‏وبلغت القلوب الحناجر‏}‏ أي زالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع والحنجرة جوف الحلقوم، وهذا على التمثيل عبر به عن شدة الخوف، وقيل معناه أنهم جبنوا وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته وإذا انتفخت رئته رفعت القلب إلى الحنجرة فلهذا يقال‏:‏ للجبان انتفخ سحره ‏{‏وتظنون بالله الظنونا‏}‏ أي اختلفت الظنون بالله فظن المنافقون استئصال محمد وأصحابه وظن المؤمنون النصر والظفر لهم‏.‏